ويمكنك تصفحة من غير تحميل
مسائل
الحديث الأول :
الحديث
قال البخاري :
حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس قال مر النبي صلى
الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما
فقال النبي صلى الله
عليه وسلم يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان
الآخر يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة فقيل
له يا رسول الله لم فعلت هذا قال لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا أو إلى أن ييبسا
.
قال البخاري : حدثنا
محمد بن المثنى قال حدثنا محمد بن خازم قال حدثنا الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن
عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في
كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة
رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة قالوا يا رسول الله لم فعلت هذا قال لعله يخفف
عنهما ما لم ييبسا وقال محمد بن المثنى وحدثنا وكيع قال حدثنا الأعمش قال سمعت مجاهدا
مثله يستتر من بوله .
====================================================
المسألة
الأولى : تصحيح البخاري لرواية منصور والأعمش ووافقه ابن حبان ورجح الترمذي رواية
الأعمش .
قوله: (حدثنا عثمان)
هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، ومجاهد هو ابن جبر
صاحب ابن عباس وقد سمع الكثير منه واشتهر بالأخذ عنه،
لكن روى هذا الحديث
الأعمش عن مجاهد فأدخل بينه وبين ابن عباس طاوسا كما أخرجه المؤلف بعد قليل،
وإخراجه له على الوجهين
يقتضي صحتهما عنده، فيحمل على أن مجاهدا سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس
بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس،
وصرح ابن حبان بصحة
الطريقين معا.
وقال الترمذي رواية
الأعمش أصح.
--------------------------------------------------------
المسألة
الثانية : هل الحائط في مكة أم المدينة ؟ وممن الشك ؟
قوله: (مر النبي
صلى الله عليه وسلم بحائط) أي بستان،
وللمصنف في الأدب
" خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة " فيحمل على أن الحائط
الذي خرج منه غير الحائط الذي مر به، وفي الأفراد للدارقطني من حديث جابر أن الحائط
كان لأم مبشر الأنصارية، وهو يقوي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شك والشك في
قوله " أو مكة " من جرير.
------------------------------------------------------------
المسألة
الثالثة : (لغوية ) هل في الحديث شاهد على على جواز إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء
ما أضيف إليه ؟
قوله: (فسمع صوت
إنسانين يعذبان في قبورهما) قال ابن مالك: في قوله " صوت إنسانين " شاهد
على جواز إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء ما أضيف إليه نحو أكلت رأس شاتين، وجمعه
أجود نحو (فقد صغت قلوبكما) وقد اجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين
فإن لم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية، فإن أمن اللبس جاز
جعل المضاف بلفظ الجمع. وقوله "يعذبان في قبورهما " شاهد لذلك. قوله: (يعذبان) في رواية الأعمش " مر بقبرين
" زاد ابن ماجه " جديدين فقال: إنهما ليعذبان " فيحتمل أن يقال: أعاد
الضمير على غير مذكور لأن سياق الكلام يدل عليه، وأن يقال أعاده على القبرين مجازا
والمراد من فيهما.
------------------------------------------------------------
مسألة
هل ثبت أنهما كبيرتين قبل هذا الحديث ؟
قوله: (وما يعذبان
في كببر ثم قال: بلى) أي إنه لكبير.
وصرح بذلك في الأدب
من طريق عبد بن حميد عن منصور فقال " وما يعذبان في كبير. وإنه
لكبير " وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش ولم يخرجها مسلم، واستدل ابن بطال
برواية الأعمش على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر، قال لأن الاحتراز
من البول لم يرد قيه وعيد، يعني قبل هذه القصة.
وتعقب بهذه الزيادة،
وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني ولفظه " وما يعذبان في كبير،
بلى " وقال ابن مالك: في قوله " في كبير " شاهد على ورود " في
" للتعليل، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم "عذبت امرأة في هرة " قال:
وخفي ذلك على أكثر النحوين مع وروده في القرآن كقول الله تعالى (لمسكم فيما أخذتم)
وفي الحديث كما تقدم، وفي الشعر فذكر شواهد. انتهى.
------------------------------------------------------------
مسألة
: ما توجيه قوله وما يعذبان في كبير ، وإنه لكبير ؟
وقد اختلف في معنى
قوله " وإنه لكبير "
1- فقال أبو عبد
الملك البوني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى إليه في الحال
بأنه كبير، فاستدرك.
وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا والنسخ لا يدخل
الخبر.
وأجيب بأن الحكم بالخبر يجوز نسخه فقوله
" وما يعذبان في كبير " إخبار بالحكم، فإذا أوحى إليه أنه كبير فأخبر به
كان نسخا لذلك الحكم.
2- وقيل: يحتمل أن الضمير في قوله " وأنه
" يعود على العذاب، لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة " يعذبان
عذابا شديدا في ذنب هين "
3- وقيل الضمير يعود
على أحد الذنبين وهو النميمة لأنها من الكبائر بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير
مستقيم لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي.
4-وقال الداودي وابن العربي: " كبير
" المنفي بمعنى أكبر، والمثبت واحد الكبائر، أي ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل
مثلا، وإن كان كبيرا في الجملة.
5- وقيل: المعنى ليس بكبير في الصورة لأن تعاطي
ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير الذنب.
7- وقيل ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين
وهو عند الله كبير كقوله تعالى (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)
8- وقيل ليس بكبير
في مشقة الاحتراز، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك.
وهذا الأخير جزم
به البغوي وغيره ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة،
9- وقيل ليس بكبير
بمجرده وإنما صار كبيرا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما
يدل على تجدد ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان.
والله أعلم.
----------------------------------------------
مسألة
: ما الرويات في يستتر وما معناها ؟
قوله: (لا يستتر)
كذا في أكثر الروايات بمثناتين من فوق الأولى مفتوحة والثانية مكسورة.
وفي رواية ابن عساكر
" يستبرئ " بموحدة ساكنة من الاستبراء.
ولمسلم وأبي داود
في حديث الأعمش " يستنزه " بنون ساكتة بعدها زاي ثم هاء،
أ- فعلى رواية الأكثر
معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني لا يتحفظ منه،
فتوافق رواية لا
يستنزه لأنها من التنزه وهو الإبعاد، وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع
عن الأعمش " كان لا يتوقى " وهي مفسرة للمراد.
ب- وأجراه بعضهم
على ظاهره فقال: معناه لا يستر عورته.
وضعف بأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل
الكشف بالسببية واطرح اعتبار البول فيترتب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا،
ولا يخفى ما فيه.
وسيأتي كلام ابن
دقيق العيد قريبا.
وأما رواية الاستبراء
فهي أبلغ في التوقي.
وتعقب الإسماعيلي
رواية الاستتار بما يحصل جوابه مما ذكرنا
قال
ابن دقيق العيد: لو حمل الاستتار على حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب
المذكور، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، يشير إلى ما
صححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا " أكثر عذاب القبر من البول " أي
بسبب ترك التحرز منه. قال: ويؤيده أن لفظ " من " في هذا الحديث
لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول، بمعنى أن
ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين الحمل
على المجاز لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد لأن مخرجه واحد.
ويؤيده أن في حديث
أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه " أما أحدهما فيعذب في البول " ومثله للطبراني
عن أنس.
قوله: (من بوله)
يأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه.
-----------------------------------------------------
مسألة
: ما تعريف النميمة والكبيرة ؟
قوله: (يمشي بالنميمة)
قال ابن دقيق العيد: هي نقل كلام الناس. والمراد
منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب. انتهى.
وهو تفسير للنميمة
بالمعنى الأعم، وكلام غيره يخالفه كما سنذكر ذلك مبسوطا في موضعه من كتاب الأدب.
قال النووي: وهي
نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح.
وتعقبه الكرماني فقال: هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء،
فإنهم يقولون: الكبيرة هي الموجبة للحد ولا حد على المشي بالنميمة. إلا
أن يقال: الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة، لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم
الكبيرة. أو أن المراد بالكبيرة معنى غير المعنى
الاصطلاحي. انتهى.
وما نقله عن الفقهاء
ليس هو قول جميعهم، لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة
وجهين: أحدهما هذا،
والثاني ما فيه وعيد شديد. قال: وهم إلى الأول أميل. والثاني
أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى.
ولا بد من حمل القول
الأول على
أن المراد به غير ما نص عليه في الأحاديث الصحيحة؛ وإلا لزم أن لا يعد عقوق الوالدين
وشهادة الزور من الكبائر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عدهما من أكبر الكبائر.
* وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستوفى في أول
كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.
وعرف بهذا الجواب
عن اعتراض الكرماني بأن النميمة قد نص في الصحيح على أنها كبيرة كما تقدم.
-------------------------------------------------------
مسألة
: ما هي الجريدة ؟ لماذا خص الجريد دون غيره من أغصان الشجر ؟
قوله: (ثم دعا بجريدة)
، وللأعمش " فدعا بعسيب رطب " والعسيب بمهملتين بوزن فعيل هي الجريدة التي
لم ينبت فها خوص، فإن نبت فهي السعفة.
وقيل إنه خص الجريد
بذلك لأنه بطيء الجفاف.
وروى النسائي من
حديث أبي رافع بسند ضعيف أن الذي أتاه بالجريدة بلال، ولفظه " كنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم في جنازة إذ سمع شيئا في قبر فقال لبلال: ائتني بجريدة خضراء
" الحديث.
قوله: (فكسرها) أي
فأتى بها فكسرها، وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني أنه الذي أتى بها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم،
---------------------------------------------------
مسألة
هل تعدد الرويات يدل على تعدد القصة ؟
وأما ما رواه مسلم
في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين، فهو في قصة
أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه: منها أن هذه كانت في المدينة وكان معه
صلى الله عليه وسلم جماعة، وقصة جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده.
ومنها أن في هذه
القصة أنه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد
هذا من رواية الأعمش، وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر جابرا بقطع غصنين من
شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرا فألقى
الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا، وأن جابرا سأله
عن ذلك فقال " إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان
رطبين " ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الآتي
في قوله " لعله"، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر وأنهما كانا في قصتين
مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك.
وقد روى ابن حبان
في صحيحه من حديث أبي هريرة " أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال:
ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه " فيحتمل أن تكون
هذه قصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع كما تقدم " فسمع شيئا في قبر
" وفيه " فكسرها باثنين ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه " وفي
قصة الواحد حمل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه، وفي قصة الاثنين " جعل على كل
قبر جريدة".
أنها (كسرتين) بكسر
الكاف، والكسرة القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنها كانت نصفا.
وفي رواية جرير عنه
" باثنتين " قال النووي: الباء زائدة للتوكيد والنصب على الحال.
قوله: (فوضع) وفي
رواية الأعمش الآتية " فغرز " وهي أخص من الأولى.
قوله: (فوضع على
كل قبر منهما كسرة) وقع في مسند عبد بن حميد من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش،
ثم غرز عند رأس كل واحد منهما قطعة.
----------------------------------------------
مسألة
سؤال الصحابة عن السبب وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قوله: (فقيل له)
للأعمش " قالوا " أي الصحابة، ولم نقف على تعيين السائل منهم.
قوله: (لعله) قال
ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في
حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه.قال: ويحتمل أن تكون " أن " زائدة
مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارة. انتهى.
وقد ثبت في الرواية
الآتية بحذف " أن " فقوى الاحتمال الثاني. وقال الكرماني: شبه لعل بعسى فأتى بأن في
خبره.
قوله: (يخفف) بالضم
وفتح الفاء، أي العذاب عن المقبورين.
قوله: (ما لم تيبسا)
كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية أي الكسرتان، وللكشميهني " إلا أن تيبسا
" بحرف الاستثناء، وللمستملي " إلى أن ييبسا " بإلى التي للغاية والياء
التحتانية أي العودان،
1- قال المازري:
يحتمل أن يكون أوحى إليه أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة.انتهى.
وعلى هذا فلعل هنا
للتعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا.
وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف
الترجي، كذا قال.
ولا يرد عليه ذلك
إذا حملناها على التعليل،
2- قال القرطبي:
وقيل إنه شفع لهما هذه المدة كما صرح به في حديث جابر، لأن الظاهر أن القصة
واحدة.
وكذا رجح النووي
كون القصة واحدة، وفيه نظر لما أوضحنا من المغايرة بينهما.
3- وقال الخطابي: هو محمول على أنه دعا لهما
بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن في الرطب معنى
ليس في اليابس.
4- قال: وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبح ما
دام رطبا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار
وغيرها.
وكذلك فيما فيه بركة
الذكر وتلاوة القرآن من باب الأولى.
5- وقال الطيبي: الحكمة في كونهما ما دامتا لرطبتين
تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزبانية.
---------------------------------------------
مسألة
هل يقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم في وضع الجريد على القبور ؟ ( أورد فيه قولين
)
أ- وقد استنكر
الخطابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملا بهذا الحديث.
قال الطرطوشي: لأن
ذلك خاص ببركة يده.
وقال القاضي عياض:
لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله " ليعذبان".
ب- قلت: لا يلزم
من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو
عذب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا أن لا ندعو له بالرحمة.
وليس في السياق ما
يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به.
وقد تأسى بريدة بن
الحصيب الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان كما سيأتي في الجنائز من هذا الكتاب،
وهو أولى أن يتبع من غيره.
--------------------------------------
مسألة
ما الحكمة من عدم ذكر المقبورين ؟
(تنبيه) : لم يعرف
اسم المقبورين ولا أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما،
وهو عمل مستحسن.
وينبغي أن لا يبالغ
في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به.
وما حكاه القرطبي
في التذكرة وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ فهو قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقرونا
ببيانه. ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة أن
النبي صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصحيح، وأما قصة
المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم " من دفنتم
اليوم هاهنا؟ " فدل على أنه لم يحضرهما، وإنما ذكرت هذا ذبا عن هذا السيد الذي
سماه النبي صلى الله عليه وسلم " سيدا " وقال لأصحابه " قوموا إلى سيدكم
" وقال " إن حكمه قد وافق حكم الله " وقال " إن عرش الرحمن اهتز
لموته " إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة، خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القرطبي
فيعتقد صحة ذلك وهو باطل.
---------------------------------------------
مسألة : هل المقبورين مسلمين أم كافرين
؟
وقد اختلف في المقبورين
1- فقيل كانا
كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني، واحتج بما رواه من حديث جابر بسند فيه ابن لهيعة
" أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية،
فسمعهما يعذبان في البول والنميمة " قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه
صحيح، لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى، ولكنه لما
رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدة المذكورة،
وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين وقال: لا يجوز أن يقال إنهما كانا
كافرين لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما، ولو كان ذلك
من خصائصه لبينه، يعني كما في قصة أبي طالب.
قلت: وما قاله أخبرا
هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن
الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على
شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل
الذي قدمنا أن مسلما أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر.
2- وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما
كانا مسلمين،
ففي رواية ابن ماجه
" مر بقبرين جديدين " فانتفى كونهما في الجاهلية،
وفي حديث أبي أمامة
عند أحمد " أنه صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فقال: من دفنتم اليوم هاهنا؟
" فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين
مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم،
ويقوى كونهما كانا
مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح " يعذبان، وما يعذبان في
كبير " و " بلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول " فهذا الحصر ينفي
كونهما كانا كافرين، لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك
على الكفر بلا خلاف.
-------------------------------------
مسألة
من فوائد الحديث ؟
وفي هذا الحديث من
الفوائد غير ما تقدم
إثبات عذاب القبر،
وسيأتي الكلام عليه في الجنائز إن شاء الله تعالى.
وفيه التحذير من
ملابسة البول، ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب،
ويستدل به على وجوب
إزالة النجاسة، خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة، والله أعلم.
تم الحديث الأول
.
مسائل
الحديث الرابع :
قال البخاري :
حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة
أم المؤمنين قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة
السفر وزيد في صلاة الحضر .
مسألة
: لماذا كرر لفظ ركعتين وهل حدد وقت التخفيف في رواية أخرى ؟
قوله: (عن عائشة
قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين) كررت لفظ ركعتين لتفيد عموم التثنية
لكل صلاة،
زاد ابن إسحاق " قال حدثني صالح بن كيسان بهذا الإسناد إلا المغرب
فإنها كانت ثلاثا " أخرجه أحمد من طريقه،
وللمصنف في كتاب الهجرة من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت
" فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا " فعين
في هذه الرواية أن الزيادة في قوله هنا " وزيد في صلاة الحضر " وقعت بالمدينة،
---------------------------------------------------
مسألة
مناقشة هل القصر في السفر عزيمة أم رخصة ؟
وقد أخذ بظاهر هذا
الحديث الحنفية وبنوا عليه أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة،
واحتج مخالفوهم [أدلة المخالفين ]
1- بقوله سبحانه
وتعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة،
والقصر إنما يكون من شيء أطول منه.
2- ويدل على أنه رخصة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم
"صدقة تصدق الله بها عليكم "
وأجابوا عن حديث
الباب بأنه من قول عائشة غير مرفوع وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة،
قاله الخطابي وغيره، وفي هذا الجواب نظر.
أما أولا : فهو مما لا مجال للرأي فيه فله
حكم الرفع، وأما
ثانيا : فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك
القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة، لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي صلى الله عليه وسلم
أو عن صحابي آخر أدرك ذلك، وأما قول إمام الحرمين لو كان ثابتا لنقل متواترا ففيه أيضا
نظر، لأن التواتر في مثل هذا غير لازم.
3- وقالوا أيضا: يعارض
حديث عائشة هذا حديث ابن عباس " فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين
" أخرجه مسلم، والجواب أنه يمكن الجمع
بين حديث عائشة وابن عباس كما سيأتي فلا تعارض،
4- وألزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا
عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون: العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا،
فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر فدل ذلك على أن المروي عنها غير ثابت،
والجواب عنهم أن عروة الراوي عنها قد قال
لما سأل عن إتمامها في السفر إنها تأولت كما تأول عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها
وبين رأيها، فروايتها صحيحة ورأيها مبني على ما تأولت.
-------------------------------
مسألة جمع ابن حجر بين
الأدلة وما ذهب إلى ترجيحه؟ ومتى قصرت
الصلاة ؟
والذي يظهر لي -
وبه تجتمع الأدلة السابقة - أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب،
ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من
طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت " فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين،
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان،
وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار " ا ه.
ثم بعد أن استقر
فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة وهي قوله تعالى (فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة)
ويؤيد ذلك ما ذكره
ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو
مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها،
وقيل كان قصر الصلاة
في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكره الدولابي وأورده السهيلي بلفظ " بعد
الهجرة بعام أو نحوه، وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما"، فعلى هذا المراد بقول عائشة
" فأقرت صلاة السفر " أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت
منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة،
وأما ما وقع في حديث
ابن عباس " والخوف ركعة " فالبحث فيه يجيء إن شاء الله تعالى في صلاة الخوف.
-------------------------------
مسألة
: هل كان قبل الإسراء والمعراج صلاة مفروضة ؟
(فائدة) :
1- ذهب جماعة إلى
أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير
تحديد،
2- وذهب الحربي إلى
أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي،
3- وذكر الشافعي
عن بعض أهل العلم أن صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقوله تعالى (فاقرءوا ما تيسر
منه) فصار الفرض قيام بعض الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس.
واستنكر محمد بن
نصر المروزي ذلك وقال: الآية تدل على أن قوله تعالى (فاقرءوا ما تيسر منه) إنما نزل
بالمدينة لقوله تعالى فيها (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) والقتال إنما وقع بالمدينة
لا بمكة، والإسراء كان بمكة قبل ذلك، ا ه.
وما استدل به غير
واضح، لأن
قوله تعالى (علم أن سيكون) ظاهر في الاستقبال، فكأنه سبحانه وتعالى امتن عليهم بتعجيل
التخفيف قبل وجود المشقة التي علم أنها ستقع لهم، والله أعلم.
تم الحديث
الرابع .
مسائل
الحديث السادس :
قال الإمام
البخاري : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثني ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد يعني ابن
عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل
يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه ؟ قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات
الخمس يمحو الله به الخطايا .
مسألة
ما الملحة الإسنادية التي تعمد ابن ابن حجر تخريج الحديث لبيانها ؟
قوله (ابن أبي
حازم والدراوردي) كل منهما يسمى عبد العزيز، وهما مدنيان، وكذا بقية رجال الإسناد.
قوله (عن يزيد
بن عبد الله) أي ابن أبي أسامة بن الهاد الليثي، وهو تابعي صغير، ولم أر هذا الحديث
بهذا الإسناد إلا من طريقه.
وأخرجه مسلم أيضا
من طريق الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عنه.
نعم روى من طريق
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، أخرجه البيهقي في الشعب من طريق محمد بن عبيد عنه،
لكنه شاذ لأن أصحاب الأعمش إنما رووه عنه عن أبي سفيان عن جابر، وهو عند مسلم أيضا
من هذا الوجه.
قوله (عن محمد
بن إبراهيم) هو التيمي راوي حديث الأعمال، وهو من التابعين أيضا،
ففي الإسناد ثلاثة
تابعيون على نسق،
------------------------------------
مسألة
: في أول الحديث ثلاث ملح لغوية فما هي ؟
قوله (أرأيتم) هو استفهام تقرير متعلق بالاستخبار، أي
أخبروني هل يبقى.
قوله (لو أن نهرا) قال الطيبي: لفظ " لو " يقتضي
أن يدخل على الفعل وأن يجاب، لكنه وضع الاستفهام موضعه تأكيدا وتقريرا، والتقدير لو
ثبت نهر صفته كذا لما بقي كذا،
والنهر بفتح الهاء
وسكونها ما بين جنبي الوادي، سمي بذلك لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه.
قوله (ما تقول) كذا في النسخ المعتمدة بإفراد المخاطب،
والمعنى ما تقول يا أيها السامع؟
ولأبي نعيم في المستخرج
على مسلم وكذا للإسماعيلي والجوزقي " ما تقولون " بصيغة الجمع، والإشارة
في ذلك إلى الاغتسال،
قال ابن مالك: فيه
شاهد على إجراء فعل القول مجرى فعل الظن، وشرطه أن يكون مضارعا مسندا إلى المخاطب
متصلا باستفهام.
قوله (يبقى) بضم
أوله على الفاعلية.
قوله (من درنه )
زاد مسلم " شيئا " والدرن الوسخ، وقد يطلق الدرن على الحب الصغار التي تحصل
في بعض الأجساد، ويأتي البحث في ذلك.
قوله (قالوا لا يبقى)
بضم أوله أيضا، و (شيئا) منصوب على المفعولية.
ولمسلم " لا
يبقى " بفتح أوله و " شيء " بالرفع، والفاء في قوله " فذلك
" جواب شيء محذوف، أي إذا تقرر ذلك عندكم فهو مثل الصلوات الخ.
مسألة
ما فائدة التمثيل بالنهر وغسل الدرن ؟
وفائدة التمثيل التأكيد،
وجعل المعقول كالمحسوس.
قال الطيبي: في هذا
الحديث مبالغة في نفي الذنوب لأنهم لم يقتصروا في الجواب على " لا " أعادوا
اللفظ تأكيدا.
وقال ابن العربي:
وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ويطهره الماء الكثير
فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تبقى له ذنبا إلا أسقطته، انتهى.
مسألة
ما المراد بالخطايا التي تكفر هل هي الصغائر أم الكبائر ؟
وظاهره أن المراد
بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة،
لكن قال ابن بطال:
يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة، لأنه شبه الخطايا بالدرن والدرن صغير بالنسبة
إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات، انتهى.
وهو مبني على أن
المراد بالدرن في الحديث الحب، والظاهر أن المراد به الوسخ، لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال
والتنظف.
وقد جاء من حديث
أبي سعيد الخدري التصريح بذلك، وهو فيما أخرجه البرار والطبراني بإسناد لا بأس به من
طريق عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " أرأيت لو أن رجلا كان له معتمل، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق
إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق، فكلما مر بنهر اغتسل منه " الحديث.
ولهذا قال القرطبي:
ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، وهو مشكل،
لكن روى مسلم قبله
حديث العلاء عن أبي هريرة مرفوعا " الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت
الكبائر "
فعلى هذا المقيد
يحمل ما أطلق في غيره.
مسألة
هل في الحديث تعارض مع القرآن ؟ وما الجواب عليها ؟ .
(فائدة) : قال ابن بزيزة في " شرح الأحكام
": يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه، وذلك أن الصغائر بنص القرآن
مكفرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى.
وقد أجاب عنه شيخنا
الإمام البلقيني بأن
السؤال غير وارد، لأن مراد الله (أن تجتنبوا) أي في جميع العمر، ومعناه الموافاة على
هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس
تكفر ما بينها - أي في يومها - إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض
بين الآية والحديث، انتهى.
وعلى تقدير ورود
السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات
الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر، لأن تركها من الكبائر فوقف التكفير على
فعلها، والله أعلم.
مسألة
ما تفاصيل ما يحصل من الإنسان من صغائر وكبائر ؟
وقد فصل شيخنا الإمام
البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة،
أحدها: أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يعاوض
برفع الدرجات.
ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفر عنه
جزما.
ثالثها: مثله لكن مع الإصرار فلا تكفر إذا قلنا
إن الإصرار على الصغائر كبيرة.
رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر.
خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه نظر يحتمل
إذا لم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر بل تكفر الصغائر، ويحتمل أن لا تكفر شيئا
أصلا، والثاني أرجح لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به، فهنا لا تكفر
شيئا إما لاختلاط الكبائر والصغائر أو لتمحض الكبائر أو تكفر الصغائر فلم تتعين جهة
مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين فلا يعمل به، ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر أن
هناك كبائر، ومقتضى " ما اجتنبت الكبائر " أن لا كبائر فيصان الحديث عنه.
مسألة
تفرد بالبخاري بلفظة ؟
(تنبيه) :
لم أر في شيء من طرقه عند أحد من الأئمة الستة وأحمد بلفظ " ما تقول " إلا
عند البخاري وليس هو عند أبي داود أصلا وهو عند ابن ماجه من حديث عثمان لا من حديث
أبي هريرة،
ولفظ مسلم
" أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من درنه
شيء " وعلى لفظه اقتصر عبد الحق في الجمع بين الصحيحين وكذا الحميدي، ووقع في
كلام بعض المتأخرين بعد أن ساقه بلفظ " ما تقولون " أنه في الصحيحين والسنن
الأربعة، وكأنه أراد أصل الحديث، لكن يرد عليه أنه ليس عند أبي داود أصلا ولا ابن ماجه
من حديث أبي هريرة.
ووقع في بعض النسخ
المتأخرة من البخاري بالياء التحتانية آخر الحروف " من يقول " فزعم بعض أهل
العصر أنه غلط وأنه لا يصح من حيث المعنى، واعتمد على ما ذكره ابن مالك مما قدمته وأخطأ
في ذلك، بل له وجه وجيه، والتقدير ما يقول أحدكم في ذلك.
والشرط الذي ذكره
ابن مالك وغيره من النحاة إنما هو لإجراء فعل القول مجرى فعل الظن كما تقدم، وأما إذا
ترك القول على حقيقته فلا، وهذا ظاهر، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به.
تم الحديث
السادس .
الحديث
السابع :
قال البخاري
: باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء
حيث كانوا
حدثنا محمد بن مقاتل
أخبرنا عبد الله أخبرنا زكرياء بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى
ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن
جبل حين بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض
عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم
واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
مسألة
الأقوال في هل تنقل الزكاة من بلدها إلى غيره ؟
(باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث
كانوا)
1- قال الإسماعيلي:
ظاهر حديث الباب أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم.
2- وقال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة
من بلد المال لعموم قوله " فترد في فقرائهم " لأن الضمير يعود على المسلمين،
فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان فقد وافق عموم الحديث انتهى.
والذي يتبادر إلى
الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين فيختص بذلك فقراؤهم،
لكن رجح ابن دقيق
العيد الأول وقال: إنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في
قواعد الشرع الكلية لا تعتبر، فلا تعتبر في الزكاة كما لا تعتبر في الصلاة فلا يختص
بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة انتهى.
وقد اختلف العلماء
في هذه المسألة : [ حسب المذاهب الفقهية ]
فأجاز النقل الليث وأبو حنيفة وأصحابهما، ونقله ابن
المنذر عن الشافعي واختاره،
والأصح عند الشافعية
والمالكية والجمهور : ترك النقل
فلو خالف ونقل أجزأ
عند المالكية على الأصح،
ولم يجزئ عند الشافعية
على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها،
ولا يبعد أنه اختيار
البخاري لأن قوله حيث كانوا يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد وفيه من هو متصف بصفة الاستحقاق.
-------------------------------------------
التعريف ببعض
رواة الإسناد وطرقه .
قوله: (أخبرنا عبد
الله) هو ابن المبارك، وزكريا بن إسحاق مكي وكذا من فوقه.
قوله: (عن يحيى)
في رواية وكيع عن زكريا " حدثني يحيى " أخرجه مسلم.
قوله: (عن أبي معبد)
في رواية إسماعيل بن أمية " عن يحيى أنه سمع أبا معبد يقول سمعت ابن عباس يقول
" أخرجه المصنف في التوحيد.
مسألة
هل الحديث من مسند ابن عباس أم مسند معاذ ؟
قوله: (قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن) كذا في جميع الطرق،
إلا ما أخرجه مسلم
عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع فقال فيه
" عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
" فعلى هذا فهو من مسند معاذ،
وظاهر سياق مسلم
أن اللفظ مدرج، لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الروايات أنه
من مسند ابن عباس فقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع فقال فيه " عن ابن عباس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا " وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم
وهو ابن راهويه قال " حدثنا وكيع به " وكذا رواه عن وكيع أحمد في مسنده أخرجه
أبو داود عن أحمد، وسيأتي في المظالم عن يحيى بن موسى عن وكيع كذلك، وأخرجه ابن خزيمة
في صحيحه عن محمد بن عبد الله المخرمي وجعفر بن محمد الثعلبي، وللإسماعيلي من طريق
أبي خيثمة وموسى بن السدي والدارقطني من طريق يعقوب بن إبراهيم الدورقي وإسحاق بن إبراهيم
البغوي كلهم عن وكيع كذلك،
فإن ثبتت رواية أبي
بكر فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد لأنه كان في أواخر حياة
النبي صلى الله عليه وسلم وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة،
مسألة
متى كان بعث معاذ إلى اليمن ؟ ومتى رجع معاذ من اليمن ؟
وكان بعث معاذ إلى
اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف في أواخر المغازي،
وقيل كان ذلك في
أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك رواه الواقدي بإسناده إلى كعب
بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة
عشر،
وقيل بعثه عام الفتح
سنة ثمان،
واتفقوا على أنه
لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها، واختلف هل
كان معاذ واليا أو قاضيا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول.
مسألة
لماذا أوصاه بأنه سيقدم على قوم أهل كتاب ؟ ولماذا عبر بـ إذا ؟
قوله: (ستأتي قوما
أهل كتاب) هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة
فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من
يقدم عليهم من أهل الكتاب بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصهم بالذكر تفضيلا
لهم على غيرهم.
قوله: (فإذا جئتهم)
قيل عبر بلفظ إذا تفاؤلا بحصول الوصول إليهم.
مسألة
ما الألفاظ الواردة في أول ما يدعوهم إليه ، وكيف يجمع بينها ؟
قوله: (فادعهم إلى
أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) كذا للأكثر،
وقد تقدم في أول
الزكاة بلفظ " وأني رسول الله " كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه
فيها،
وأما إسماعيل بن
أمية ففي رواية روح بن القاسم عنه " فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا
الله "
وفي رواية الفضل
بن العلاء عنه " إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك "
ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده وبتوحيده
الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة،
مسألة
لماذا بدأ بالشهادتين ؟ وهل في الأمر بهما دلل على عدم وجوب التبري مما يخالفهما ؟
ووقعت البداءة بهما
لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما فمن كان منهم غير موحد فالمطالبة
متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدا فالمطالبة له بالجمع
بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة،
وإن كانوا يعتقدون
ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه كمن يقول ببنوة عزير أو يعتقد التشبيه فتكون مطالبتهم
بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم.
واستدل به من قال
من العلماء إنه
لا يشترط التبري من كل دين يخالف دين الإسلام خلافا لمن قال إن من كان كافرا بشيء وهو
مؤمن بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بترك اعتقاد ما كفر به،
والجواب أن اعتقاد
الشهادتين يستلزم ترك اعتقاد التشبيه ودعوى بنوة عزير وغيره فيكتفى بذلك، واستدل به على
أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف إليها الشهادة
لمحمد بالرسالة وهو قول الجمهور.
وقال بعضهم يصير
بالأولى مسلما ويطالب بالثانية.
وفائدة الخلاف تظهر
بالحكم بالردة.
مسألة
متى كان دخول اليهودية إلى اليمن ؟ وهل طرأ عليهم تجدد في دينهم ؟
(تنبيهان) أحدهما كان أصل دخول اليهودية في اليمن
في زمن أسعد أبي كرب وهو تبع الأصغر كما حكاه ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية.
ثانيهما قال ابن
العربي في شرح الترمذي: تبرأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن العزير ابن الله
وهذا لا يمنع كونه كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك نزل في زمنه
واليهود معه بالمدينة وغيرها فلم ينقل عن أحد منهم أنه رد ذلك ولا تعقبه، والظاهر أن
القائل بذلك طائفة منهم لا جميعهم بدليل أن القائل من النصارى إن المسيح ابن الله طائفة
منهم لا جميعهم فيجوز أن تكون تلك الطائفة انقرضت في هذه الأزمان كما انقلب اعتقاد
معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل وتحول معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من
الأمور المعنوية لا الحسية، فسبحان مقلب القلوب.
مسألة
على ماذا يدل قوله فإن هم أطاعوك بذلك فــ
قوله: (فإن هم أطاعوا
لك بذلك) أي شهدوا وانقادوا.
وفي رواية ابن خزيمة
" فإن هم أجابوا لذلك " وفي رواية الفضل بن العلاء كما تقدم " فإذا
عرفوا ذلك " وعدى أطاع باللام وإن كان يتعدى بنفسه لتضمنه معنى انقاد، واستدل
به على أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين وإن كانوا يعبدون الله ويظهرون معرفته لكن قال
حذاق المتكلمين: ما عرف الله من شبهه بخلقه أو أضاف إليه اليد أو أضاف إليه الولد فمعبودهم
الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به.
واستدل به على أن
الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا أولا إلى الإيمان فقط، ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليها بالفاء.
وأيضا فإن قوله
" فإن هم أطاعوا فاخبرهم " يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لا يجب عليهم شيء،
وفيه نظر لأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به،
وأجاب بعضهم عن الأول
بأنه استدلال ضعيف، لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة
والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت
الأخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة.
مسألة
هل الصلاة والزكاة تجب جميعاً بعد الإسلام أم يرتب بينهما فلا يأمر بالزكاة إلا من
أجاب إلى الصلاة ؟ ولماذا رتب بينهما ؟
الصلاة والزكاة لا
ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها
بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة.
وقيل الحكمة في ترتيب
الزكاة على الصلاة أن الذي يقر بالتوحيد ويجحد الصلاة يكفر بذلك فيصير ماله
فيئا فلا تنفعه الزكاة،
وأما قول الخطابي
إن ذكر الصدقة أخر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم وأنها لا تكرر تكرار
الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب
لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة.
مسألة
هل في الحديث دليل على أن الوتر وغيرها من الصلوات المتأكدة هي من النوافل ؟
قوله: (خمس صلوات)
استدل به على أن الوتر ليس بفرض وقد تقدم البحث فيه في موضعه.
مسألة
هل المقصود أنهم بمجرد الإقرار يعتبرون مجيبون فيخبرون بوجوب الزكاة أم أنه
بأدائهم لها ؟
قوله: (فإن هم أطاعوا
لك بذلك)
قال ابن دقيق العيد:
يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون المراد
إقرارهم بوجوبها عليهم والتزامهم لها،
والثاني أن يكون
المراد الطاعة بالفعل، وقد يرجح الأول بأن المذكور هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة
بذلك إليها، ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى
ولم يشترط التلفظ بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب انتهى.
والذي يظهر أن المراد
القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى، وقد
وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة " فإذا صلوا " وبعد ذكر الزكاة
" فإذا أقروا بذلك فخذ منهم".
مسألة
هل العبرة في وجوب الزكاة الأموال أم مالكيها ؟ وهي تخرج في الفقراء فقط .
قوله: (صدقة) زاد
في رواية أبي عاصم عن زكريا " في أموالهم " كما تقدم في أول الزكاة.
وفي رواية الفضل
بن العلاء افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم.
قوله: (تؤخذ من أغنيائهم)
استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن
امتنع منها أخذت منه قهرا.
قوله: (على فقرائهم)
استدل به لقول مالك وغيره إنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، وفيه بحث كما قال ابن
دقيق العيد لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين
الأغنياء.
وقال الخطابي: وقد
يستدل به من لا يرى على المديون زكاة ما في يده إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر
نصاب لأنه ليس بغني إذا كان إخراج ماله مستحقا لغرمائه.
مسألة ما علاقة
كرائم الأموال بالظلم ؟
قوله: (فإياك وكرائم
أموالهم) كرائم منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف الواو،
والكرائم جمع كريمة أي نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال، والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة
الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا إن رضوا بذلك كما تقدم البحث فيه.
قوله: (واتق دعوة
المظلوم) أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم.
وفيه تنبيه على المنع
من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها
ظلم.
وقال بعضهم: عطف
واتق على عامل إياك المحذوف وجوبا، فالتقدير اتق نفسك أن تتعرض للكرائم.
وأشار بالعطف إلى
أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه عمم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقا.
مسألة
ما المقصود بذكر أنه ليس بينها وبين الله حجاب ؟ وهل هو مطلق ؟
قوله: (حجاب) أي
ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيا كما جاء في حديث
أبي هريرة عند أحمد مرفوعا " دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على
نفسه " وإسناده حسن، وليس المراد أن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس.
وقال الطيبي: قوله
" اتق دعوة المظلوم " تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى
غيره، وقوله "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء،
كمن يقصد دار السلطان متظلما فلا يحجب، وسيأتي لهذا مزيد في كتاب التوحيد إن شاء الله
تعالى.
قال ابن العربي:
إلا أنه وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل
له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله.
وهذا كما قيد مطلق
قوله تعالى (أم من يجيب المضطر إذا دعاه) بقوله تعالى (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء)
مسألة
لماذا نص على الصلاة والزكاة ولم ينص على الصوم والحج ؟
لم يقع في هذا الحديث
ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر،
وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتعقب
بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان.
وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر،
ولهذا كررا في القرآن فمن ثم لم يذكر الصوم والحح في هذا الحديث مع أنهما من أركان
الإسلام، والسر في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلا بخلاف
الصوم فإنه قد يسقط بالفدية، والحج فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب، ويحتمل
أنه حينئذ لم يكن شرع انتهى.
وقال شيخنا شيخ الإسلام:
إذا كان الكلام في
بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء كحديث ابن عمر " بني الإسلام على خمس
"
فإذا كان في الدعاء
إلى الإسلام اكتفي بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة ولو كان بعد وجود
فرض الصوم والحج كقوله تعالى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) في موضعين من
براءة مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعا، وحديث ابن عمر أيضا " أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " وغير ذلك
من الأحاديث، قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة: اعتقادي وهو الشهادة، وبدني
وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة.
[ إذا قال ابن حجر وقال شيخنا شيخ الإسلام فقد
صرح في مواضع كثيرة أنه سراج الدين البلقيني ]
مسألة
ما هدايات الحديث ؟
وفي الحديث أيضا
· الدعاء
إلى التوحيد قبل القتال،
· وتوصية
الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها،
· وفيه
بعث السعاة لأخذ الزكاة، وقبول خبر الواحد ووجوب العمل به،
· وإيجاب
الزكاة في مال الصبي والمجنون لعموم قوله " من أغنيائهم " قاله عياض وفيه
بحث،
· وأن
الزكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضمير في فقرائهم إلى المسلمين سواء قلنا بخصوص البلد
أو العموم،
· وأن
الفقير لا زكاة عليه،
· وأن
من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير،
· ومن
ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني والغني مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني،
قال ابن دقيق العيد: وليس هذا البحث بالشديد القوة، وقد تقدم أنه قول الحنفية.
· وقال
البغوي فيه أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال
وفيه نظر أيضا.
· اقتصر
في الدعاء إلى الإسلام عليها لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض والحج
بدني مالي، وأيضا فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار والصلوات شاقة لتكررها
والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما
سواها أسهل عليه بالنسبة إليها.
والله أعلم.
الحديث الثامن :
قال البخاري : حدثنا
عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات
قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات .
وقال : حدثني
عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر
.
----
مسألة
لماذا تفاوتت روايات البخاري وهل ذلك من فعله ؟
قوله: (اجتنبوا الموبقات:
الشرك بالله والسحر) هكذا أورد الحديث مختصرا وحذف لفظ العدد،
وقد تقدم في كتاب
الوصايا بلفظ " اجتنبوا السبع الموبقات " وساق الحديث بتمامه،
ويجوز نصب الشرك
بدلا من السبع، ويجوز الرفع على الاستئناف فيكون خبر مبتدأ محذوف،
والنكتة في اقتصاره
على اثنتين من السبع هنا الرمز إلى تأكيد أمر السحر، فظن بعض الناس أن هذا القدر هو
جملة الحديث، فقال: ذكر الموبقات وهي صيغة جمع وفسرها باثنتين فقط، وهو من قبيل قوله
تعالى (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) فاقتصر على اثنتين فقط، وهذا
على أحد الأقوال في الآية،
ولكن ليس الحديث
كذلك فإنه في الأصل سبعة حذف البخاري منها خمسة وليس شأن الآية كذلك.
وقال ابن مالك: تضمن
هذا الحديث حذف المعطوف للعلم به، فإن تقدير اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر وأخواتهما
وجاز الحذف لأن الموبقات سبع، وقد ثبتت في حديث آخر، واقتصر في هذا الحديث على ثنتين
منها تنبيها على أنهما أحق بالاجتناب، ويجوز رفع الشرك والسحر على تقدير " منهن".
قلت: وظاهر كلامه
يقتضي أن الحديث ورد هكذا تارة وتارة ورد بتمامه، وليس كذلك،
وإنما الذي اختصره
البخاري نفسه كعادته في جواز الاقتصار على بعض الحديث،
وقد أخرجه المصنف
في كتاب الوصايا في " باب قول الله عز وجل: إن الذي يأكلون أموال اليتامى ظلما
" عن عبد العزيز بن عبد الله شيخه في هذا الحديث بهذا الإسناد، وساقها
سبعا فذكر بعد السحر وقتل النفس الخ، وأعاده في أواخر كتاب المحاربين بهذا الإسناد
بعينه بتمامه، وأغفل المزي في الأطراف " ذكر هذا الموضع في ترجمة سالم أبي
الغيث عن أبي هريرة.
--
قوله (حدثني سليمان)
هو ابن بلال ولغير أبي ذر " حدثنا " وأبو الغيث هو سالم.
مسألة
ما الموبقات وما أقوال أهل العلم في شرح الكبيرة ؟
قول (اجتنبوا السبع
الموبقات) بموحدة وقاف أي المهلكات، قال المهلب: سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها.
قلت: والمراد بالموبقة
هنا الكبيرة كما ثبت في حديث أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البزار وابن المنذر من طريق
عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه " الكبائر الشرك بالله
وقتل النفس " الحديث مثل رواية أبي الغيث، إلا أنه ذكر بدل السحر الانتقال إلى
الأعرابية بعد الهجرة.
مسألة
هل اقتصرت الأحاديث التي عددت الكبائر على سبع ؟ ( عدد ما ورد وصفه بالكبيرة )
[
أنهن سبع ] من ذكرها غير البخاري ] وأخرج النسائي والطبراني
وصححه ابن حبان والحاكم من طريق صهيب مولى العتواريين عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصلي الخمس ويجتنب الكبائر السبع
إلا فتحت له أبواب الجنة " الحديث، ولكن لم يفسرها، والمعتمد في تفسيرها ما وقع
في رواية سالم، وقد وافقه كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه
والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه عن جده قال: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن
وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن " الحديث بطوله، وفيه " وكان في الكتاب:
وإن أكبر الكبائر الشرك " فذكر مثل حديث سالم سواء، وللطبراني من حديث سهل بن
أبي خيثمة عن على رفعه " اجتنب الكبائر السبع " فذكرها لكن ذكر التعرب بعد
الهجرة بدل السحر، وله في الأوسط من حديث أبي سعيد مثله وقال: " الرجوع إلى الأعراب
بعد الهجرة " ولإسماعيل القاضي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عبد الله
بن عمرو قال: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ثم قال أبشروا من صلى الخمس
واجتنب الكبائر السبع نودي من أبواب الجنة " فقيل له: أسمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يذكرهن؟ قال: نعم، فذكر مثل حديث على سواء وقال عبد الرزاق " أنبأنا معمر
عن الحسن قال الكبائر الإشراك بالله " فذكر حديث الأصول سواء إلا أنه قال:
" اليمين الفاجرة " بدل السحر،
[
أنهن تسع ] ولابن عمرو فيما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد
" والطبري في التفسير وعبد الرزاق والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " وإسماعيل
القاضي في " أحكام القرآن " مرفوعا وموقوفا قال: " الكبائر تسع
" فذكر السبعة المذكورة وزاد " الإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين " ولأبي
داود والطبراني من رواية عبيد بن عمير بن قتادة الليثي عن أبيه رفعه " إن أولياء
الله المصلون ومن يجتنب الكبائر قالوا: ما الكبائر؟ قال: هن تسع، أعظمهن الإشراك بالله
" فذكر مثل حديث ابن عمر سواء إلا أنه عبر عن الإلحاد في الحرم باستحلال البيت
الحرام.
[
أنهن عشر ] وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب
قال: " هن عشر " فذكر السبعة التي في الأصل وزاد " وعقوق الوالدين واليمين
الغموس وشرب الخمر " ولابن أبي حاتم من طريق مالك بن حريث عن علي قال: "
الكبائر " فذكر التسعة إلا مال اليتيم وزاد العقوق والتغرب بعد الهجرة وفراق الجماعة
ونكث الصفقة، وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا: الشرك ومال اليتيم
والفرار من الزحف والسحر والعقوق وقول الزور والغلول والزنا ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا". قلت وقد تقدم
في كتاب الأدب عد اليمين الغموس وكذا شهادة الزور وعقوق الوالدين وعند عبد الرزاق والطبراني
عن ابن مسعود " أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة
الله واليأس من روح الله " وهو موقوف، وروى إسماعيل بسند صحيح من طريق ابن سيرين
عن عبد الله بن عمرو مثل حديث الأصل لكن قال: " البهتان " بدل السحر والقذف،
فسئل عن ذلك فقال: البهتان يجمع، وفي الموطأ عن النعمان بن مرة مرسلا " الزنا
والسرقة وشرب الخمر فواحش " وله شاهد من حديث عمران بن حصين عند البخاري في
" الأدب المفرد " والطبراني والبيهقي وسنده حسن، وتقدم حديث ابن عباس في
النميمة ومن رواه بلفظ الغيبة وترك التنزه من البول كل ذلك في الطهارة، ولإسماعيل القاضي
من مرسل الحسن ذكر " الزنا والسرقة " وله عن أبي إسحاق السبيعي " شتم
أبي بكر وعمر " وهو لابن أبي حاتم من قول مغيرة بن مقسم.
وأخرج الطبري عنه
بسند صحيح " الإضرار في الوصية من الكبائر " وعنه " الجمع بين الصلاتين
من غير عذر " رفعه وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من
قول ابن عمر ذكر النهبة، ومن حديث بريدة عند البزار منع فضل الماء ومنع طروق الفحل،
ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم " الصلوات كفارات إلا من ثلاث: الإشراك بالله ونكث
الصفقة وترك السنة " ثم فسر نكث الصفقة بالخروج على الإمام وترك السنة بالخروج
عن الجماعة أخرجه الحاكم، ومن حديث ابن عمر عند ابن مردويه " أكبر الكبائر سوء
الظن بالله " ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن أخرجه أبو داود والترمذي عن أنس
رفعه " نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل فنسيها
" وحديث " من أتى حائضا أو كاهنا فقد كفر " أخرجه الترمذي، فهذا جميع
ما وقفت عليه مما ورد التصريح بأنه من الكبائر أو من أكبر الكبائر صحيحا وضعيفا مرفوعا
وموقوفا، وقد تتبعته غاية التتبع، وفي بعضه ما ورد خاصا ويدخل في عموم غيره كالتسبب
في لعن الوالدين وهو داخل في العقوق وقتل الولد وهو داخل في قتل النفس والزنا بحليلة
الجار وهو داخل في الزنا والنهبة والغلول واسم الخيانة يشمله ويدخل الجميع في السرقة
وتعلم السحر وهو داخل في السحر وشهادة الزور وهي داخلة في قول الزور ويمين الغموس وهي
داخلة في اليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله كاليأس من روح الله، والمعتمد من كل
ذلك ما ورد مرفوعا بغير تداخل من وجه صحيح وهي السبعة المذكورة في حديث الباب والانتقال
عن الهجرة والزنا والسرقة والعقوق واليمين الغموس والإلحاد في الحرم وشرب الخمر وشهادة
الزور والنميمة وترك التنزه من البول والغلول ونكث الصفقة وفراق الجماعة، فتلك عشرون
خصلة وتتفاوت مراتبها، والمجمع على عده من ذلك أقوى من المختلف فيه إلا ما عضده القرآن
أو الإجماع فيلتحق بما فوقه ويجتمع من المرفوع ومن الموقوف ما يقاربها، ويحتاج عند
هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو
جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد فيجب الأخذ بالزائد، أو أن
الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك.
[ أنهن أكثر من 77 ] وقد أخرج الطبري وإسماعيل القاضي عن ابن عباس
أنه قيل له الكبائر سبع فقال: هن أكثر من سبع وسبع.
وفي رواية عنه هي
إلى السبعين أقرب.
وفي رواية إلى السبعمائة،
ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع، وكأن المقتصر عليها اعتمد
على حدث الباب المذكور.
[ ما ضابط الكبيرة ] وقد مر مختصراً وهنا ذكر النقاش واختار أن أحسن التعاريف تعريف
القرطبي .
مسألة
ماذا يستفاد من تباين الأحاديث التي ذكرت الكبائر ؟ وكيف نقد ابن حجر تعريف من
عرفها بأنه ما عليها الحد ؟
وإذا تقرر ذلك عرف
فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيما الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد،
قال الرافعي في الشرح
الكبير: الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل
ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول
أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في الروضة، وهو يشعر
بأنه لا يوجد عن أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد .
قال
الماوردي في " الحاوي ": هي ما يوجب الحد أو توجه إليها الوعيد، وأوفى كلامه للتنويع لا للشك،
مسألة
كيف يجاب على ما نسب لبعض العلماء من تعريف الكبيرة بأنه ما عليه الحد ؟
وكيف يقول عالم إن
الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور
وغير ذلك، والأصل فيما ذكره الرافعي قول البغوي في " التهذيب " من ارتكب
كبيرة من زنا أو لواط أو شرب خمر أو غصب أو سرقة أو قتل بغير حق ترد شهادته وإن فعله
مرة واحدة، ثم قال: فكل ما يوجب الحد من المعاصي فهو كبيرة، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه
بنص كتاب أو سنة انتهى. والكلام الأول لا
يقتضي الحصر، والثاني هو المعتمد.
وقال ابن عبد السلام:
لم أقف عل ضابط الكبيرة يعني يسلم من الاعتراض،
قال: والأولى ضبطها
بما يشعر بتهاون مرتكبها إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، قال وضبطها بعضهم بكل ذنب
قرن به وعيد أو لعن.
قلت: وهذا أشمل من
غيره، ولا يرد عليه إخلاله بما فيه حد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد
على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقا والمتراخية إذا تضيقت.
وقال ابن الصلاح:
لها أمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب
أو السنة، ومنها وصف صاحبها بالفسق، ومنها اللعن، قلت: وهذا أوسع مما قبله.
وقد أخرج إسماعيل
القاضي بسند فيه ابن لهيعة عن أبي سعيد مرفوعا " الكبائر كل ذنب أدخل صاحبه النار
" وبسند صحيح عن الحسن البصري قال " كل ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو
كبيرة "
مسألة
ما أحسن تعاريف الكبيرة الموافق للنصوص وإلى ماذا ذهب الحليمي ؟
ومن أحسن التعاريف
قول القرطبي في المفهم " كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة
أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة
" وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو العن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث
الصحيحة والحسنة ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على
أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف منه تحير عدها، وقد شرعت في جمع ذلك، وأسأل الله
الإعانة على تحريره بمنه وكرمه.
وقال الحليمي في
" المنهاج " ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة
بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر وليس
من نوعه صغيرة، قلت: ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش وأفحش.
ثم ذكر الحليمي أمثلة
لما قال فالثاني كقتل النفس بغير حق فإنه كبيرة، فإن قتل أصلا أو فرعا أو ذا رحم أو
بالحرم أو بالشهر الحرام فهو فاحشة.
والزنا كبيرة، فإن
كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة.
وشرب الخمر كبيرة،
فإن كان في شهر رمضان نهارا أو في الحرم أو جاهر به فهو فاحشة.
والأول كالمفاخذة
مع الأجنبية صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو ذات رحم فكبيرة.
وسرقة ما دون النصاب
صغيرة، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره وأفضى به عدمه إلى الضعف فهو كبيرة.
وأطال في أمثلة ذلك.
وفي الكثير منه ما
يتعقب، لكن هذا عنوانه، وهو منهج حسن لا بأس باعتباره، ومداره على شدة المفسدة وخفتها
والله أعلم.
(تنبيه) : يأتي القول في تعظيم قتل النفس في الكتاب
الذي بعد هذا، وتقدم الكلام على السحر في آخر كتاب الطب، وعلى أكل مال اليتيم في كتاب
الوصايا، وعلى أكل الربا في كتاب البيوع، وعلى التولي يوم الزحف في كتاب الجهاد، وذكر
هنا قذف المحصنات.
وقد شرط القاضي أبو
سعيد الهروي في " أدب القضاء " أن شرط كون غصب المال كبيرة أن يبلغ نصابا،
ويطرد في السرقة وغيرها، وأطلق في ذلك جماعة، ويطرد في أكل مال اليتيم وجميع أنواع
الجناية.
والله أعلم.
مسألة
حل السحر عن المسحور .
قوله: (باب هل يستخرج
السحر) ؟ كذا أورد الترجمة بالاستفهام إشارة إلى الاختلاف، وصدر بما نقله عن سعيد بن
المسيب من الجواز إشارة إلى ترجيحه.
مسألة
الأقوال في حل السحر بالنشرة من السحر ؟
قوله: (وقال قتادة
قلت لسعيد بن المسيب الخ) وصله أبو بكر الأثرم في " كتاب السنن " من طريق
أبان العطار عن قتادة، ومثله من طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ " يلتمس من
يداويه،
فقال: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع " وأخرجه الطبري في
" التهذيب " من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا
يرى بأسا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: هو صلاح. قال قتادة: وكان
الحسن يكره ذلك يقول: لا يعلم ذلك إلا ساحر، قال فقال سعيد بن المسيب.إنما نهى الله
عما يضر ولم ينه عما ينفع.
وقد أخرج أبو داود في " المراسيل " عن الحسن رفعه " النشرة
من عمل الشيطان " ووصله أحمد وأبو داود بسند حسن عن جابر، قال ابن الجوزي: النشرة
حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.وقد سئل أحمد عمن يطلق
السحر عن المسحور فقال: لا بأس به. وهذا هو المعتمد. ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله
" النشرة من عمل الشيطان " إشارة إلى أصلها، ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد
بها خيرا كان خيرا وإلا فهو شر.
ثم الحصر المنقول
عن الحسن ليس على ظاهره لأنه قد ينحل بالرقى والأدعية والتعويذ، ولكن يحتمل أن تكون
النشرة نوعين.
قوله: (به طب) بكسر
الطاء أي سحر، وقد تقدم توجيهه. قوله: (أو يؤخذ) بفتح الواو مهموز وتشديد الخاء المعجمة
وبعدها معجمة أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها، والأخذة بضم الهمزة هي الكلام
الذي يقوله الساحر، وقيل حرزة يرقى عليها، أو هي الرقية نفسها. قوله: (أو يحل عنه)
بضم أوله وفتح المهملة.
قوله: (أو ينشر)
بتشديد المعجمة من النشرة بالضم وهي ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا
من الجن، قيل لها ذلك لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء، ويوافق قول سعيد بن المسيب
ما تقدم في " باب الرقية " في حديث جابر عند مسلم مرفوعا " من استطاع
أن ينفع أخاه فليفعل " ويؤيد مشروعية النشرة ما تقدم في حديث " العين حق
" في قصة اغتسال العائن،
وقد أخرج عبد الرزاق
من طريق الشعبي قال: لا بأس بالنشرة العربية التي إذا وطئت لا تضره، [ صفات من النشرة العربية ]
[1] وهي أن يخرج الإنسان في موضع عضاه فيأخذ
عن يمينه وعن شماله من كل ثم يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به.
[2] وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه أن
يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي
والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل
إذا حبس عن أهله،
وممن صرح بجواز النشرة
المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري وغيرهما، ثم وقفت على صفة النشرة في " كتاب
الطب النبوي " لجعفر المستغفري قال: وجدت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من
" تفسير قتيبة بن أحمد البخاري " قال قال قتادة لسعيد بن المسيب: رجل به
طب أخذ عن امرأته أيحل له أن ينشر؟ قال لا بأس، وإنما يريد به الإصلاح، فأما ما ينفع
فلم ينه عنه.
[3] قال نصوح: فسألني حماد بن شاكر: ما الحل
وما النشرة؟ فلم أعرفهما، فقال: هو الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها
فإن المبتلي بذلك يأخذ حزمة قضبان وفأسا ذا قطارين ويضعه في وسط تلك الحزمة ثم يؤجج
نارا في تلك الحزمة حتى إذا ما حمي الفأس استخرجه من النار وبال على حره فإنه يبرأ
بإذن الله تعالى، وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفارة وورد
البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذبا ثم يغلي ذلك الورد في الماء
غليا يسيرا ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى: قال حاشد:
تعلمت هاتين الفائدتين بالشام.
قلت: وحاشد هذا من
رواة الصحيح عن البخاري، وقد أغفل المستغفري أن أثر قتادة هذا علقه البخاري في صحيحه
وأنه وصله الطبري في تفسيره، ولو اطلع على ذلك ما اكتفى بعزوه إلى تفسير قتيبة بن أحمد
بغير إسناد، وأغفل أيضا أثر الشعبي في صفته وهو أعلى ما اتصل بنا من ذلك.
مسألة
صفة سحر النبي صلى الله عليه وسلم وكيف فك بالرقية ؟
ثم ذكر حديث عائشة
في قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق شرحه مستوفى قريبا.
وقوله فيه
" قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر " سفيان هو ابن عيينة وهو موصول
بالسند المذكور.
ولم أقف على كلام
سفيان هذا في مسند الحميدي ولا أن أبي عمر ولا غيرهما والله أعلم.
قوله: (في جف طلعة
ذكر تحت رعوفة) في رواية الكشميهني " راعوفة " بزيادة ألف بعد الراء وهو
كذلك لأكثر الرواة، عكس ابن التين وزعم أن راعوفة للأصيلي فقط وهو المشهور في اللغة،
وفي لغة أخرى " أرعوفة " ووقع كذلك في مرسل عمر بن الحكم، ووقع في رواية
معمر عن هشام بن عروة عند أحمد " تحت رعوثة " بمثلثة بدل الفاء وهي لغة أخرى
معروفة، ووقع في النهاية لابن الأثير أن في رواية أخرى " زعوبة " بزاي وموحدة
وقال هي بمعني راعوفة ا هـ.
والراعوفة حجر يوضع
على رأس البئر لا يستطاع قلعه يقوم عليه المستقي.
وقد يكون في أسفل
البئر، قال أبو عبيد: هي صخرة تنزل في أسفل البئر إذا حفرت يجلس عليها الذي ينظف البئر،
وهو حجر يوجد صلبا لا يستطاع نزعه فيترك، واختلف في اشتقاقها فقيل: لتقدمها وبروزها
يقال جاء فلان يرعف الخيل أي يتقدمها؛ وذكر الأزهري في تهذيبه عن شمر قال: راعوفة البئر
النظافة، هي مثل عين على قدر حجر العقرب في أعلى الركية فيجاوز في الحفر خمس قيم وأكثر
فربما وجدوا ماء كثيرا، قال شمر: فمن ذهب بالراعوفة إلى النظافة فكأنه أخذه من رعاف
الأنف، ومن ذهب بالراعوفة إلى الحجر الذي يتقدم طي البئر فهو من رعف الرجل إذا سبق.
قلت: وتنزيل الراعوفة
على الأخير واضح بخلاف الأول، والله أعلم.
قوله (باب رمي المحصنات)
أي قذفهن، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمزوجات بل حكم البكر كذلك بالإجماع.
قوله (والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم الآية) كذا لأبي ذر والنسفي، وأما غيرهما
فساقوا الآية إلى قوله (غفور رحيم) .
قوله (إن الذين يرمون
المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا) كذا لأبي ذر، ولغيره " إلى قوله عظيم، واقتصر،
النسفي على (إن الذين يرمون) الآية وتضمنت الآية الأولى بيان حد القذف والثانية بيان
كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة
وهو المعتمد وبذلك يطابق حديث الباب الآيتين المذكورتين، وقد انعقد الإجماع على أن
حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء، واختلف في حكم قذف الأرقاء كما
سأذكره في الباب الذي بعده.
قوله (والذين يرمون
أزواجهم ثم لم يأتوا الآية) كذا لأبي ذر وحده، ونبه على أنه وقع فيه وهم لأن التلاوة
(ولم يكن لهم شهداء) وهو كذلك لكن في إيرادها هنا تكرار لأنها تتعلق باللعان، وقد تقدم
قريبا " باب من رمى امرأته".
مسألة
ما المقصود بالقذف وهل لحصره وهل يخص بالمحصنات وما المقصود بالمحصنات ؟
قوله (باب رمي المحصنات)
أي قذفهن، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمزوجات بل حكم البكر كذلك بالإجماع.
قوله (والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم الآية) كذا لأبي ذر والنسفي، وأما غيرهما
فساقوا الآية إلى قوله (غفور رحيم) .
قوله (إن الذين يرمون
المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا) كذا لأبي ذر، ولغيره " إلى قوله عظيم، واقتصر،
النسفي على (إن الذين يرمون) الآية
وتضمنت الآية الأولى
بيان حد القذف
والثانية بيان كونه
من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة
وهو المعتمد وبذلك
يطابق حديث الباب الآيتين المذكورتين، وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من
الرجال حكم قذف المحصنة من النساء، واختلف في حكم قذف الأرقاء كما سأذكره في الباب
الذي بعده.
قوله (والذين يرمون
أزواجهم ثم لم يأتوا الآية) كذا لأبي ذر وحده، ونبه على أنه وقع فيه وهم لأن التلاوة
(ولم يكن لهم شهداء) وهو كذلك لكن في إيرادها هنا تكرار لأنها تتعلق باللعان، وقد تقدم
قريبا " باب من رمى امرأته".
الحديث
التاسع :
قال البخاري : حدثنا
أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد
في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة
أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة .
قوله: (باب أفضل
الناس مؤمن مجاهد) في رواية الكشميهني " يجاهد " بلفظ المضارع.
مسألة
تفسير التجارة التي لن تبور ؟
قوله: (وقوله يا
أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة) أي تفسير هاتين الآيتين، وقد روى ابن أبي حاتم
من طريق سعيد بن جبير " أن هذه الآية لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة
لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: (تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون) الآية
" هكذا ذكره مرسلا، وروى هو والطبري من طريق قتادة قال " لولا أن الله بينها
ودل عليها لتلهف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها حتى يطلبونها".
إلى
ماذا يشير قوله والله إعلم بمن يجاهد في سبيلة ؟
قوله: (مثل المجاهد
في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) فيه إشارة إلى اعتبار الإخلاص، وسيأتي
بيانه في حديث أبي موسى بعد اثني عشر بابا.
مسألة
: إذكر جملة من الرويات التي أوردها ابن حجر في فضل المجاهد في سبيل الله .
قوله: (كمثل الصائم
القائم) ، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة " كمثل الصائم القائم القانت
بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام، زاد النسائي من هذا الوجه " الخاشع
الراكع الساجد " وفي الموطأ وابن حبان " كمثل الصائم القائم الدائم الذي
لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع، ولأحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعا
" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله " وشبه
حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد
من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة
من ساعاته بغير ثواب لما تقدم من حديث " أن المجاهد لتستن فرسه فيكتب له حسنات
" وأصرح منه قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب) الآيتين.
قوله: (وتوكل الله
.... ) تقدم معناه مفردا في كتاب الإيمان من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة وسياقه أتم،
ولفظه " انتدب الله"، ولمسلم من هذا الوجه بلفظ " تضمن الله لمن
خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي " وفيه التفات وإن فيه انتقالا من ضمير
الحضور إلى ضمير الغيبة.
مسألة
لغوية لم حذف القول واكتفى بالمقول ؟
وقال ابن مالك: فيه
حذف القول والاكتفاء بالمقول، وهو سائغ شائع سواء كان حالا أو غير حال، فمن الحال قوله
تعالى (ويستغفرون للذين آمنوا، ربنا وسعت) أي قائلين ربنا، وهذا مثله أي قائلا لا يخرجه
إلخ،
وقد اختلفت الطرق
عن أبي هريرة في سياقه، فرواه مسلم من طريق الأعرج عنه بلفظ " تكفل الله لمن جاهد
في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته " وسيأتي كذلك من طريق
أبي الزناد في كتاب الخمس، وكذلك أخرجه مالك في الموطأ عن أبي الزناد في كتاب الخمس،
وأخرجه الدارمي من وجه آخر عن أبي الزناد بلفظ " لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل
الله وتصديق كلماته"، نعم أخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر، فوقع في روايته
التصريح بأنه من الأحاديث الإلهية، ولفظه " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
يحكي عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيل ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن رجعته
أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة " الحديث رجاله ثقات، وأخرجه الترمذي من حديث
عبادة بلفظ " يقول الله عز وجل: المجاهد في سبيلي هو علي ضامن إن رجعته رجعته
بأجر أو غنيمة " الحديث وصححه الترمذي،
مسألة
ما معنى تضمن الله ؟
وقوله "تضمن
الله وتكفل الله وانتدب الله " بمعنى واحد، ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله
تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) وذلك التحقيق على
وجه الفضل منه سبحانه وتعالى، وقد عبر صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله
بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم،
مسألة
ماذا يستفاد من قوله لا يخرجه إلا جهادا ؟
وقوله "لا يخرجه
إلا الجهاد " نص على اشتراط خلوص النية في الجهاد، وسيأتي بسط القول فيه بعد أحد
عشر بابا، وقوله "فهو علي ضامن " أي مضمون، أو معناه أنه ذو ضمان.
ما
ميزة المجاهد إذا كان كل من توافاه الله من المسلمين يدخله الجنة ؟
قوله: (بأن يتوفاه
أن يدخله الجنة) أي بأن يدخله الجنة إن توفاه، في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان
" أن توفاه " بالشرطية والفعل الماضي أخرجه الطبراني وهو أوضح.
قوله: (أن يدخله
الجنة) أي بغير حساب ولا عذاب، أو المراد أن يدخله الجنة ساعة موته، كما ورد
" أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة " وبهذا التقرير يندفع إيراد من قال: ظاهر
الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة، ومحصل
الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص.
قوله: (أو يرجعه)
بفتح أوله، وهو منصوب بالعطف على يتوفاه.
مسألة
هل الحصول على الغنيمة ينافي حصول الأجر ؟ وكيف تجيب عن ذلك ؟
قوله: (مع أجر أو
غنيمة) أي مع أجر خالص إن لم يغنم شيئا أو مع غنيمة خالصة معها أجر،
[ الجواب الأول] وكأنه سكت عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة
لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة، والحامل على هذا التأويل أن ظاهر الحديث أنه
إذا غنم لا يحصل له أجر، وليس ذلك مرادا بل المراد أو غنيمة معها أجر أنقص من أجر من
لم يغنم، لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها، فالحديث
صريح في نفي الحرمان وليس صريحا في نفي الجمع.
[ الجواب الثاني] وقال الكرماني: معنى الحديث أن المجاهد
إما يستشهد أو لا، والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة ثم إمكان اجتماعهما، فهي قضية مانعة
الخلو لا الجمع، وقد قيل في الجواب عن هذا الإشكال: إن أو بمعنى الواو، وبه
جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحها التوربشتي، والتقدير بأجر وغنيمة.
وقد وقع كذلك في
رواية لمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة رواه كذلك عن يحيى بن يحيى عن مغيرة بن عبد
الرحمن عن أبي الزناد، وقد رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بن يحيى فقالوا: أجر
أو غنيمة بصيغة أو، وقد رواه مالك في الموطأ بلفظ " أو غنيمة " ولم يختلف
عليه إلا في رواية يحيى بن بكير عنه فوقع فيه بلفظ " وغنيمة " ورواية يحيى
بن بكير عن مالك فيها مقال.
ووقع عند النسائي
من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بالواو أيضا وكذا من طريق عطاء بن ميناء
عن أبي هريرة وكذلك أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بلفظ: " بما نال
من أجر وغنيمة "
فإن
كانت هذه الروايات محفوظة تعين القول بأن " أو " في هذا الحديث بمعنى الواو
كما
هو مذهب نحاة الكوفيين،
لكن
فيه إشكال صعب لأنه يقتضي من حيث المعنى أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من
رجع، وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرا من الغزاة يرجع بغير غنيمة، فما فر منه الذي ادعى أن
" أو " بمعنى الواو وقع في نظيره
- لأنه يلزم على
ظاهرها أن من رجع بغنيمة بغير أجر،
- كما يلزم على أنها
بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معا،
مسألة
هل ينقص من أجر من غنم ؟
وكيف
يجاب عن إشكال تعارض نقص الجر مع تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنائم ؟
وقد روى مسلم من
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا " ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون
الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم
لهم أجرهم " وهذا يؤيد التأويل الأول وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر
من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل
له من الدنيا وتمتعه بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم
دون أجر من لم يغنم، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح الآتي " فمنا من مات
ولم يأكل من أجره شيئا " الحديث.
واستشكل
بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث،
وقد اشتهر تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت
تنقص الأجر ما وقع التمدح بها.
وأيضا فإن ذلك يستلزم
أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلا مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق.
[ الإجابات التي وردت ] وسبق إلى هذا الإشكال ابن عبد البر، وحكاه
عياض وذكر أن بعضهم
- أجاب عنه
بأنه ضعف حديث عبد الله بن عمرو لأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور،
وهذا مردود لأنه ثقة يحتج به عند مسلم، وقد وثقه النسائي وابن يونس وغيرهما ولا يعرف
فيه تجريح لأحد.
ومنهم من حمل نقص
الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، وظهور فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في رده،
إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر ولا أقل منه،
ومنهم من حمل نقص
الأجر عل من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا، وفيه نظر لأن صدر الحديث مصرح بأن المقسم
راجع إلى من أخلص لقوله في أوله " لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي".
وقال عياض: الوجه
عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما.
ولم يجب عن الإشكال
المتعلق بأهل بدر.
وقال ابن
دقيق العيد: لا
تعارض بين الحديثين، بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة
فيما كان أجره بحسب مشقته، إذ للمشقة دخول في الأجر، وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ
الغنائم، يعني فلو كانت تنقص الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها، فيمكن أن يجاب
بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذ الغنائم أول ما شرع كان
عونا على الدين وقوة لضعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى يغتفر لها بعض النقص في الأجر
من حيث هو. وأما الجواب عمن استشكل ذلك
بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن يكون التقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه
إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند
وجودها ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص
أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونه مغفورا لهم وأنهم
أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.
وأما
الاعتراض بحل الغنائم فغير وارد، إذ لا يلزم من الحل ثبوت وفاء الأجر لكل
غاز، والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة واستيلاءها
من الكفار يحصل الثواب، ومع ذلك فمع صحة ثبوت الفضل في أخذ الغنيمة وصحة التمدح
بأخذها لا يلزم من ذلك أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئا البتة
قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل، وإلا
فالأمر على ما تقرر آخرا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا مما لو لم
يحصل لهم أجر الغنيمة أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم
كمن شهد أحدا لكونهم لم يغنموا شيئا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال
ذلك أن يكون لو فرض أن أجر البدري بغير غنيمة ستمائة وأجر الأحدي مثلا بغير غنيمة مائة
فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث عبد الله بن عمرو كان للبدري لكونه أخذ الغنيمة مائتان
وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرا من الأحدي، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها
أول غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار وكان مبدأ اشتهار
الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا، فصارت
لا يوازيها شيء في الفضل والله أعلم.
واختار
ابن عبد البر أن
المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة،
كما يؤجر من أصيب بما له فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص
من أصل الأجر،
ولا يخفى مباينة
هذا التأويل لسياق حديث عبد الله بن عمرو الذي تقدم ذكره.
وذكر بعض المتأخرين
للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله ابن عمرو حكمة لطيفة بالغة :
وذلك أن الله أعد
للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويتان وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة والأخروية
دخول الجنة،
فإذا رجع سالما غانما
فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوضه الله
عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك
شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا.
وأما الثواب المختص
بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا، قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين
أجرا بطريق المجاز والله أعلم.
وفي الحديث
أن الفضائل لا تدرك دائما بالقياس، بل هي بفضل الله.
وفيه استعمال التمثيل
في الأحكام، وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها، وإنما تحصل بالنية الخالصة
إجمالا وتفصيلا، والله أعلم.
تم الحديث
التاسع ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق